في واحدة من أكثر القضايا حساسية وخطورة على السيادة العراقية، يتكرر المشهد المأساوي: ملف خور عبد الله يُركن جانباً، وتُؤجّل البتّ فيه من المحكمة الاتحادية، وكأن الأمر لا يمس كرامة وطن ولا يعبر عن مصير أجيال قادمة. هذا التأجيل لم يعد مجرد إجراء قانوني، بل بات يحمل في طياته رائحة التسويف السياسي، وربما ما هو أخطر: التواطؤ الإقليمي والدولي في مشروع ناعم لتقويض السيادة العراقية تحت لافتات الاستثمار والتعاون.
المكان ليس مجرد ممر مائي، بل هو شريان استراتيجي يربط العراق بالخليج العربي. وهو منذ عقود هدف لمحاولات خبيثة لاقتطاعه وتحويله إلى منفذ كويتي بامتياز، على حساب الحق العراقي التاريخي والجغرافي. فما جرى من اتفاقيات وما تبعها من ترسيم حدود – خاصة اتفاق عام 2012 – كان في غالبه مشبوهاً، وسط ضغوط دولية ومحلية وتغييب للرأي العام العراقي.
فعندما تنظر من زاوية مستقبلية ترى تأجيل المحكمة الاتحادية البت في قضية بهذا الحجم أكثر من مرة، دون مبررات مقنعة، هو أمر يثير الشكوك ويترك تساؤلاً.. هل أصبحت أعلى سلطة قضائية في البلاد جزءاً من لعبة تأجيل الحقيقة؟ هل هناك ضغوط سياسية داخلية أو إملاءات خارجية تجعل القرار السيادي رهناً بالتقويم السياسي لا الدستوري؟
فمن جانب تتكاثر الشكوك حول دور بريطاني غير مباشر في هذا الملف، خاصة مع تاريخ لندن الطويل في إعادة رسم الخرائط وصناعة الأزمات في الشرق الأوسط. بعض التحليلات تشير إلى وجود مشروع اقتصادي–جيوسياسي تقوده أطراف دولية لربط الكويت بشبكات ملاحية تمتد إلى الموانئ العراقية، تحديداً ميناء الفاو، بشكل يجعل من العراق مجرد ممر لا مالك.
والبعض الآخر يذهب أبعد من ذلك، فيتحدث عن اتفاقات “استثمارية” بمباركة غربية، تهدف إلى خنق الموانئ العراقية مستقبلاً وتحويل خور عبد الله إلى نقطة نفوذ كويتية–دولية تمنع العراق من امتلاك منفذه الكامل على البحر.
الكويت، من جانبها، لا تتحرك بعشوائية. مشروع ميناء مبارك الكبير لم يكن مجرد حلم اقتصادي، بل خطوة إستراتيجية لإحكام الطوق على الملاحة العراقية، وفرض أمر واقع يجعل العراق تابعاً لبوابات كويتية وخليجية. لا يمكن فصل تحركات الكويت الحالية عن سياق طويل من السياسات التوسعية الناعمة، تتقن لعبة الوقت والضغوط الدبلوماسية.
وهنا يأتي السؤال المفصلي: ما موقف رئيس الوزراء محمد شياع السوداني؟ بعض الأصوات تتهمه بالتراخي المتعمد، وربما التواطؤ، في ملف خور عبد الله. فالصمت الحكومي، والتأجيل القضائي، والارتباك السياسي، كلها علامات لا يمكن قراءتها بريئة. السوداني، إن لم يكن شريكاً في المشروع، فهو على الأقل مقصر في صون السيادة، ومتواطئ بالصمت، وهذا بحد ذاته خيانة سياسية تستوجب المحاسبة.
ومع كل هذه المعطيات تستنتج ان قضية خور عبد الله ليست نزاعاً حدودياً بسيطاً، بل اختبار حقيقي لكرامة الدولة العراقية. السكوت عنها، أو تأجيلها، أو تبريرها بمصطلحات قانونية، هو سقوط أخلاقي وسياسي مدوٍّ. إن لم يستفق الشعب، وتتحرك القوى الوطنية، فإن العراق سيجد نفسه، مرة أخرى، ضحية مؤامرات الخارج وتقاعس الداخل.