في ملامح المواطن العراقي وطن من الم، تمتد جذوره الى قرون عدة تحمل قوائم طويلة بحقوقه المسلوبة، بعد الف لجنة منحلة لمطالبه المثقلة بأعذار الموازنات المتأخرة، فليس للفساد صورة معروفة، ولا نعرف من اين اتى وبأي جواز سفر يتنقل، المخضرمون يقولون: انه هبط من مغارة في رأس سياسي واشترى الضمائر وجلس بعدها في احد المقاهي مع قهوة وجرائد، تأكدنا حينها انه مثقف، فتركناه ثم انتشر.
وأطفال المدينة يقولون: انه خرج من غابات صناعية ابتسم لهم وابدع في توزيع الحمص والعدس ونشر الاسفلت، وعلق مستقبل الاجيال على جسر قرطبة، فشاهدنا العالم الثالث عن كثب.
والمرضى يقولون: وجدناه في طائرة خاصة تقله الى الولايات المتحدة الامريكية، ليأخذ الحصانة الدولية لوريثه الجديد، وترك لنا اكياسا من النايلون وشراشف للاسرة نربط بها عربات نقل المرضى المتهالكة حرصا منه على سلامتنا، فإننا لا نقول هذا من باب المباهاة والغرور القومي، انه اشعل همة البلد وكبريائه، للتقدم والتطور، في مواقفه الدونكشوتية التي اسست لجيل جديد من الاهتمام بنا.
ومعلموا المدارس يقولون: انه اقتحم صفوفهم ذات صباح فتكلم بلغة لم يتعلمها الطلاب وكتب احرف غريبة ففهموا ماقاله لهم، فحملوه على اكتافهم وخرجوا به الى الشوارع بمظاهرة مطالبين بتعيين الفساد حاكما لهم.
فمن ذا الذي يتلوا ايات الامل على مسامع اليأس التي بثها الفساد في صدى منفذين كتب على احدها الحق والاخر الباطل، ومن يتيمم للجهاد ويصلي اليقين في نطق الحقيقة؟.
عيادات الصيرفة
في ظل الظروف المعيشية الصعبة التي يعيشها المواطن العراقي وتعاقب الحكومات دون تغيير بالتزامن مع الموازنات الانفجارية، يصارع الموظف من اجل البقاء في سكة الحياة الكريمة التي يسعى جاهدا لتحقيقها الى عائلته، وما زاد صعوبة الامر انهيار العملة، رافق ذلك تدني الخدمات لإهم قطاعين في البلد التعليم والصحة، اذ تحولت التربية والتعليم محطات غسيل اموال من مدارس وجامعات اهلية، ونظرة الاطباء للمراجع بنظرة مادية بحته، مما اضطر الموظف الى العمل خارج اوقات الدوام الرسمي في محاولة منه لرفد الدخل لتلبية الاحتياجات المجنونة للحياة العصرية.
فغياب الرقابة الاقتصادية وعدم وجود قانون ينظم العمل خارج أوقات الدوام الرسمي اشعل فتيل الجشع والطمع لدى الكثير ونحن نتحدث هنا عن قطاعي التربية والصحة، وتحديدا الأطباء، اذ تحول الطبيب الى اله يتم تقديم القرابين له ليبقى في مكانه، واذا ما قدم طرف اخر عرضا اقوى فانه يرحل دون المبالاة بخسائر الصيدلي والمختبري اللذان تحملا مسؤولية تأهيل المكان، اذ يقع على الرقابة وعلى نقابة الأطباء اخذ الدور الحقيقي في قضية متابعة عيادات الصيرفة، فالمافيات المسيطرة على المجمعات الطبية سنت سنة ما انزل الله بها من سلطان، وهي ان الصيدلي وحده او المختبري وحده او كلاهما يتحمل تكاليف التأهيل والتجهيز اللوجستي للمكان، ناهيك عن الإيجارات والمولدة والكهرباء والانترنت والاعلانات الممولة والضوئية والطباعة والسكرتارية والى مالانهاية من الطلبات، مع سيارة او عدد من الشدات ليبقى الطبيب مستقرا معهم ما ان يختل جزء منها حتى يحمل او تحمل حقيبته ويغادر الى عرض اعلى، وهنا يتضاعف على الصيدلي او المختبري او كلاهما حزمة المحروقات الشهرية مما يضطرهم لزيادة الأسعار، لذا يجب على جميع الكوادر العاملة بعد الدوام الرسمي الضغط باتجاه إقرار قوانين جديدة تنظم العمل بما يتلائم مع متطلبات الساحة الجديدة، وما يحفظ حقوقهم ومصادر رزقهم التي اقرها القانون بشكل ولو لم يكن بالمستوى المطلوب.
وهنا يغيب كالعادة دور الرقابة بفروعها الاقتصادية والصحية والقانونية، ومع عودة مجلس المحافظة كان الامل بتفعيل لجنة الصحة التي كانت من حصة خريجي التربية، وهنا السؤال هل عجز 26 الف اذا لم يكن اكثر موظف في دائرة الصحة عن إيجاد شخصية تتولى قيادة لجنة الصحة لعلمها بمدلهمات امورها؟.
وهنا في ظل هذه ” الهوسة” نجد عجز كبير من قبل الحكومات لتوجيه الدعم لقطاع الصحة لتلبي المؤسسات احتياجات المواطن والموظف على حد سواء، فغياب العيادات الشعبية وانعدام دورها جاء بسبب قلة رواتب العاملين فيها، وقلة التجهيزات الطبية من الادوية وغيرها، إضافة الى عدم وجود تخطيط في توزيع المنتسبين في ظل زخم كبير للدوام الصباحي، والذي يمكن ان يكون استشاريات خافرة بنظام الساعات الإضافية، والشفت المسائي الذي يقتصر على الطوارئ والرقود، وبعضها لم تتمكن اداراتها من افتتاح الطوارئ حتى لأسباب المحاصصة والجهات المتنفذة.
وهنا يحتاج الموطن العراقي موظف او مستفيد من الخدمة، كالعادة الى ان يقف تحت اشعة الشمس الحارقة، ويكافحه الشغب بخراطيم المياه الساخنة او الدخانيات للمطالبة بحقوقه وايقاف استغلاله من قبل المصابين بالطمع والجشع.
خصخصة التربية
في العراق يعاني الشباب من صعوبة الحياة في ظل الخصخصة العامة وحالة الغلاء غير الاعتيادية التي تجتاح مفاصل المعيشة بشكل عام، فقبل ان يفكر احدهم بأنجاب الأطفال وحتى الزواج أساسا، عليه ان يضع قائمة تتجاوز المليون دينار شهريا تتصاعد بوتيرة متسارعة، تتضمن:
- بعد 6 سنوات تحتاج الى 12 مليون دينار لتخرج الطفل الأول من المرحلة الابتدائية.
- تحتاج الى 15 مليون دينار ليتجاوز المرحلة الثانوية.
- وتحتاج الى 3.500 دروس خصوصية و12 مليون للمدرسة الاهلية و5 مليون مصاريف نقل وملازم وطباعة وملابس ولوجستيات أخرى حسب الطالب للمرحلة الإعدادية.
وهنا سأقف قليلا… 47 مليون تكلفة الحصول على شهادة الإعدادية في العراق!!!
أجرينا جملة من الاتصالات والجولات على مجموعة من الاهل والأصدقاء ممن لديهم طلبة وتلاميذ، ووجدت المعاناة نفسها.
السؤال هنا: ما دور الرقابة والاجراءات المعقدة لمنح الاجازات في مديرية التربية، اين الرقابة التشريعية والتنفيذية في المحافظة؟، الا تحتاج الى إعادة النظر في ترتيب الأولوية لاهم قطاعين لبناء الموارد البشرية هي التعليم والصحة، في ارقام تداولها متحدثون تزعم ان ما يقارب 500 مدرسة أهلية في احد المحافظات، في حين عدد مدارسها الحكومية بلغ 650 تقريبا اي بغضون سنة ستتجاوز المدارس الاهلية الحكومية بالعدة والعدد.
ربما نحتاج الى زيارة مسؤول عراقي لاحد المدارس الحكومية للاطلاع على الواقع المأساوي لها، ويمكن بعدها يصرح “الله لا يوفقني على هاي الخدمة”، وهنا علينا عدم القاء اللوم على جشع الاطباء “وهذا ليس مبرر” ولكن اجدها استجابة لتلبية متطلبات الحياة الحديثة التي بذلوا جهدا و47 مليون من دون الجامعة للوصول اليها، وهذه الاسباب هي جوهرية لتردي الواقع الاجتماعي لدى المجتمع العراقي وتحديدا الشباب، اذ تجد انه جيل محبط يقتنع بالإشاعات وتتمرر عليه الاخبار المزيفة، وتؤدلجه البروبوغاندا ويوجه رأيه التيك توك ويقوده الى قعر الجهل والتفاهة.
فلسنا بحاجة الى جسور ولا اشجار ضوئية، نحن امة نفتقد الى مقعد دراسي نموذجي كحق عام في التعليم كفله الدستور العراقي في المادة ٣٤-اولاً : “التعليم عامل اساس لتقدم المجتمع وحق تكفله الدولة، وهو الزامي في المرحلة الابتدائية، وتكفل الدولة مكافحة الامية . ثانياً : التعليم المجاني حق لكل العراقيين في مختلف مراحله”، بحاجة الى مكان يليق بالمعلم والطالب، بحاجة الى مستشفيات تتوفر فيها الادوية والأجهزة والمستلزمات التي تعطي للطبيب حقه وقيمته وتخرجه من قوقعة الجشع والنظرة الى المريض على انه ” معجونية ” تعزز هرمون الدولارين لديه.
مؤسسات صحية بشرطها وشروطها وليس شكلية ( اكو رنين ماكوو كاسيت، اكو كاسيت الجهاز عاطل، اكو رنين اكو كاسيت الطبيب مموجود، اكو رنين اكو كاسيت اكو طبيب خلص الدوام، تعال على باجر..)
واذا ما صحت الاحصائيات التي نشرتها مواقع الكترونية لصحف ومجلات منتصف العام الماضي ان عدد المدارس الاهلية بلغ 2883 مدرسة كانت حصة كربلاء منها 247، بواقع عجز في الأبنية المدرسية يصل الى 9000 مدرسة، فإننا باتجاه خصخصة التعليم بصورة او بأخرى، في الوقت الذي لا يتجاوز فيه راتب الموظف 800 الف دينار، او مخصصات الرعاية 270 الف دينار، يضطر الى الدخول في حالة من التقشف العام لإكمال تعليم أولادهم، وتصرف الحكومة 40 مليار لمجسر واحد فقط فكم مدرسة نموذجية سيبني هذا المبلغ؟.
اكذوبة التدريس الخصوصي
اثقلت المدارس الاهلية والدروس الخصوصية كاهل الفرد العراقي وتحديدا من ذوي الدخل المحدود والكسبة، فحسب كلام احد الإباء ولديه ثلاثة بنات في مرحلتي الإعدادية والمتوسطة، يقول ابو فاطمة “ابو الخط”: ان فاطمة اعادت السادس الاعدادي لأنه لا يملك المال لإدخالها الدروس الخصوصية والمدارس الاهلية، واعتمدت على اليوتيوب ولكن من دون نتيجة”.
ولكن للدكتور مسلم عباس الباحث في الشأن الإعلامي رأي اخر اذ ذكر في حديث الكتروني : الناس غير واعية لأكذوبة التدريس الخصوصي، هذه تجارة تعتمد على العرض والطلب، هناك تجارب كثيرة لطلبة بسطاء استطاعوا تحقيق درجات ممتازة رغم عدم دخولهم في اي درس خصوصي”.
محملا الاعلام مسؤولية “تسليط الضوء على هذه التجارب لتشجيع الناس على تركها، الانترنت لم يترك سؤالا الا وأجاب عليه عبر الكورسات وخاصة في اليوتيوب… وكلها مجانية حينما يتعلم الناس أهمية ترك الخصوصي يقل الطلب على المعاهد فتنخفض الأسعار”.
وفي رده على الدكتور مسلم عباس أجاب الأستاذ غسان الربيعي موضحا تفاصيل مهمة : ان ما يحصل في تدريس المناهج في المدارس الحكومية والأهلية على حد سواء هو البرنامج الذي تضعه وزارة التربية مثال عن ذلك ..تخصص في الخطة السنوية الموضوعة لمادة الرياضيات عدد ١٨٠ محاضرة لإنهاء المنهج كاملا، وعند التطبيق نجد انه لا يمكن تنفيذ الخطة لأسباب عدة أهمها: العطل الرسمية والمناسبات الدينية حيث لا يكفي الزمن المتبقي ليسد عدد المحاضرات المطلوبة لذا تكون هناك عجلة وسرعة في التنفيذ من قبل المدارس والمدرسين لإكمال المنهج.
ومؤكدا ان ذلك “ينعكس سلبا على مستوى الطالب وسمعت المدرس في نفس الوقت…اما ما يحصل في المعاهد الرصينة ان الفصل الواحد ممكن ان يصل الى ٢٠ محاضرة مدة الواحدة منها ساعتين ناهيك عن الامتحانات اليومية والاسبوعية والنصف شهرية والشهرية وهنا ستكون فائدة الطالب اكبر واكثر وتجد ان الغالبية تحقق درجات عالية في المادة”.
ولكنه لم ينفي ان هناك حالات فردية قليلة جدا يحقق الطالب فيها معدلات عالية رغم عدم دخوله في اي معهد او درس خصوصي…فعلا هذا الموضوع بحاجة الى وضع دراسة مستفيضة، اما فيما ما يخص موضوع المعاهد الاهلية وكثرتها ومبالغها فلا يوجد قانون يحد من هذا سوى الضوابط التي وضعتها وزارة التربية لمنح الاجازات لتلك المعاهد الا ان الخلل الأكبر ان الكثير منها غير مجاز، وهذه مشكلة ملازمة لكل القطاعات ومنها الصحة وهو غياب القانون”.
…ونعود الى التدريس الخصوصي وممارسة المدرس لاختصاصه خارج أوقات الدوام الرسمي أوضح الربيعي ان “الطبيب يمارس عمله خارج أوقات الدوام والمهندس وووو.. لماذا نحاول منع المعلم والمدرس من ممارسة اختصاصه رغم علمنا جميعا انه احوج الناس لهذا العمل بسبب تدني مستوى معيشته وراتبه المضحك بالنسبة لرواتب الاخرين يجب ان نضع هذا بعين الاعتبار علاوة على وقت الدرس الذي نزل الى ٣٠ دقيقه بسبب ازدواجية وثلاثية الدوام في المدارس”.
وختاما..
ليس من طموحات الكاتبة ان يكون هذا المقال دليلا لفتح ملفات مفتوحة مع غض البصر، ولا لأقول للسلطات في أي جزيرة يسكن تجار البشر، وفي أي فندق يقيمون وكم حجة ذهبوا وماهي أيام افراحهم، توصلت الى شمولية بان الفساد هو قرارات الحرية وامطار الحزن التي تجتمع فوق رؤوس الافراد، لتتحول بعد ذلك الى مشاريع وخصخصة، مقاتلين، متظاهرين ودماء، الى محاولة للإجابة عن مجموعة من الأسئلة لا جواب لها.
واكتشفت ان الفساد طائر اسطوري يحمل على ظهره الكومنشنات والاستثمارات والموازنات المنسية، وفي حديثنا هذا محاولة يائسة لتعقب هذا الطائر الى كهوفه خلف البروج المحصنة، لأخبركم عن مظاهر عامة منها كيف يتم وضع المواطن كبش فداء وكيف يتم نحره وتوزيعه، وان اعتقال الفساد مهمة مستحيلة وهذا لم يمنعني من الإشارة الى الجنون الذي يختصر العقل والفوضى التي تختصر النظام في بلاد السلام.
وعلى الحكومة الالتفات الى:-
- تعديل سلم الرواتب لتعزيز دخل الفرد بما يتناسب ظروف الحياة الصعبة.
- توفير خطة إسكان الموظفين او شمولهم بقطع الأراضي على ان يتم ذلك وفق قانون تمنح سنويا لمن حقق الشروط.
- إقرار قانون العمل خارج أوقات الدوام الرسمي بما يتناسب مع التخصصات كافة وبالتفصيل.
- إقرار تسعيرة الخدمات المقدمة للمواطن خارج أوقات الدوام الرسمي.
- إعادة العمل بنظام الساعات الإضافية.
- إعادة النظر بخطة توزيع الموظفين على الدوائر لتفادي البطالة الوظيفية.