في عالم الصراع والمقاومة، هناك رموز ترتسم على جبين الأمة كنجوم مضيئة، تأبى إلا أن تخلد أسماءها في ذاكرة التاريخ.
يحيى السنوار، الشهيد الذي ارتقى إلى العلياء بعد مسيرة طويلة من النضال، هو أحد تلك الرموز، هو قائد، مقاتل، ومجاهد رفض الخنوع، واختار أن يعيش ويقاتل بجسده وروحه من أجل حرية أرضه وشعبه.
لا يمكن الحديث عن هذا البطل دون أن نستعرض تلك الرحلة الثورية، الأدبية والعاطفية التي خطها بدمائه.
روح ثائرة
لم يكن يحيى السنوار مجرد قائد عسكري يتخفى وراء أجهزة الرادار أو في الأنفاق بعيدًا عن المواجهة كما يروج لهذه الفكرة بعض العرب المتصهينين والمطبعين، بل كان مجاهدًا مقاتلًا في الخطوط الأمامية.
بجرأته وشجاعته، أصبح السنوار رمزًا للمقاومة الحقيقية التي لا تعرف الخوف ولا تتردد في مقارعة العدو، ففي كل معركة، وفي كل عملية بطولية شهدتها رفح، كان السنوار يتقدم الصفوف، يرتدي جعبته القتالية، ويتسلح ببندقيته كجندي يواجه العدو في ساحة المعركة.
صورة القائد الذي لا يخشى المواجهة، الذي يلتقي العدو وجهًا لوجه، تحمل في طياتها رسائل عميقة، مثلًا ان المقاومة ليست مجرد كلمات أو خطب نارية، بل هي التزام عملي حتى الرمق الأخير.
ليس غريبًا أن يصبح السنوار رمزًا للشباب الفلسطيني والعربي بشكلٍ عام، فهو يجسد معاني الثبات والإصرار.
كان يحيى يقدم درسًا عميقًا في القيادة، فالقائد الذي يعيش بين شعبه ويخوض المعركة معهم هو القائد الذي يكسب قلوبهم.
في زمن الفوضى والضعف العربي، يتساءل المرء: أين أولئك الذين يدعون الدفاع عن القضية الفلسطينية؟ أين هم من مواقف السنوار؟ بينما يختبئ البعض خلف المكاتب الفخمة ويرسلون جنودهم إلى المعارك، كان يحيى السنوار يقف في المقدمة، مستعدًا للاستشهاد في أي لحظة.
درس في الثبات
كان يحيى السنوار قائدًا لم يعرف الهزيمة، ليس فقط لأنه قائد عسكري متمكن، بل لأنه كان يؤمن بقضية عادلة؛ قضية تحرير أرضه واستعادة كرامة شعبه.
في ساحة القتال، لا يمكن أن يكون هناك مكان للخوف أو التردد، وهذا ما أدركه السنوار، القيادة عنده كانت تعني أن يكون أول من يشتبك وآخر من يغادر ساحة المعركة، لقد جعل من روحه وقودًا لنضال شعبه، وكان يعلم أن النصر ليس دائمًا مرادفًا للحياة، بل أحيانًا يكون الاستشهاد هو أسمى درجات الانتصار.
لم يكن اغتيال يحيى السنوار عملية مدروسة ومخططة من قبل العدو كما قد يظن البعض، بل جاءت بعد اشتباك بالصدفة، فسنوات من التخبط والفشل في الوصول إليه كانت قد أذاقت العدو مرارة الهزيمة.
لقد كانت سنة كاملة من العذاب الذي ذاقه الصهاينة، حيث كان السنوار وقادة المقاومة يوجهون ضربات موجعة تزرع في قلوبهم الرعب واليأس، لقد كان السنوار مقاتلًا حتى الرمق الأخير، ولم يتوانَ عن خوض أي معركة بنفسه، حتى لو كانت حياته هي الثمن.
القائد في ساحة المعركة
عندما نتحدث عن يحيى السنوار، فإننا لا نتحدث فقط عن رجل يقاتل من أجل وطنه، بل عن قائد يعلم كيف يقود. قيادته لم تكن مجرد تكتيكات عسكرية أو خطط حربية، بل كانت روحًا ثائرة تسري في عروق كل من يقاتل إلى جانبه، في كل مرة كان يقف فيها السنوار على خطوط النار، كان يعيد تعريف مفهوم القيادة، تلك القيادة التي تعني التضحية بالذات من أجل الآخرين. كان يعرف أن معركته مع الاحتلال هي معركة وجود، وأنه لا يمكن التراجع أو الاستسلام.
في الوقت الذي كانت فيه الأنظمة العربية تتصارع على السلطة، كانت فلسطين تنتظر من يدافع عنها بصدق. وكان السنوار هو ذاك البطل الذي رفع راية المقاومة فوق الجراح، ليعلن أن النضال لا يتوقف حتى ولو بدا النصر بعيدًا. لقد كان يعلم أن هذا النصر قد لا يتحقق في حياته، لكنه كان واثقًا أن مسيرته ستظل تلهم أجيالًا قادمة.
اشتباك المصير
الاشتباك الأخير الذي خاضه السنوار لم يكن مجرد مواجهة عسكرية، بل كان لقاء مصيريًا مع القدر، نضال لم يتوقف يومًا ولم يعرف الراحة. العدو الذي خطط لسنوات لاغتياله وجد نفسه في اشتباك مباشر معه، اشتباك لم يكن في الحسبان، لكنه كان اللحظة التي اختارها القدر لتكون نهاية حياة الشهيد وبداية حياة جديدة في ذاكرة الأجيال.
يحيى السنوار لم يمت. نعم، جسده قد ارتقى، لكن روحه باقية. تلك الروح التي ألهبت قلوب المقاومين وحفزتهم على مواصلة الطريق. فالشهيد لا يموت حين يرتقي، بل يولد من جديد في قلب كل من يحمل الراية من بعده.
كلمة أخيرة
إن قصة الشهيد يحيى السنوار ليست مجرد قصة رجل سقط في ساحة المعركة، بل هي قصة ثورة متجددة في قلوب شعبه. هو رمز للكرامة، للنضال، وللتضحية التي لا تعرف الحدود. إن صموده أمام العدو، وشجاعته في مواجهة الموت، هما ما يجعلان من قصة حياته درسًا لكل من يسعى للحرية. كان السنوار يعلم أن طريق المقاومة مليء بالتضحيات، لكنه اختار أن يسلكه حتى النهاية.
نحن اليوم نودع الشهيد يحيى السنوار، لكننا نعلم أنه سيظل حيًا فينا. اسمه سيبقى محفورًا في ذاكرة فلسطين، وسيظل رمزًا لكل من يؤمن بالحرية والكرامة.