شهدت الساحة السياسية في كركوك مؤخراً حدثاً أثار الكثير من الجدل وردود الفعل المتباينة، وهو توقيف محافظ كركوك السابق راكان سعيد الجبوري في العاصمة بغداد بتهمة هدر المال العام، قبل أن يتم الإفراج عنه في اليوم التالي. وعلى الرغم من أن الحادثة تبدو قانونية في ظاهرها، إلا أن تطوراتها وتحولها السريع إلى حدث سياسي من العيار الثقيل، يفتح الباب لتساؤلات أعمق حول التوقيت، والأهداف، وما ينتظر المدينة المتعددة القوميات والطوائف في المستقبل القريب.
لم يكن توقيف الجبوري حدثاً عادياً، بل بدا وكأنه صاعق أشعل الشارع العربي في كركوك، الذي رأى في الأمر استهدافاً سياسياً أكثر منه إجراءً قضائياً محضاً. وما هي إلا ساعات حتى تحولت هذه الواقعة إلى دعاية انتخابية مجانية للجبوري، الذي نجح – أو ساعده خصومه من حيث لا يعلمون – في إعادة تسليط الأضواء عليه كرمز عربي في المحافظة.
اللافت أن التضامن لم يأتِ فقط من مؤيديه التقليديين، بل شمل بيانات دعم من أعضاء عرب في مجلس محافظة كركوك، وامتد ليشمل أيضاً الجبهة التركمانية، التي أصدرت بياناً يعبر عن موقف واضح من رفض استهداف شخصيات قيادية دون توازن في المحاسبة. هذا الاصطفاف المتعدد القومية يعكس حقيقة مهمة: أن كركوك، رغم تعقيداتها، لا تزال تحتفظ بشبكة من التوازنات الدقيقة، وأي اهتزاز فيها قد يقود إلى نتائج غير محسوبة.
في المقابل، سارعت إدارة كركوك الحالية إلى إصدار توضيح بأنها ليست الجهة التي وقفت خلف الشكوى أو توقيف الجبوري، في محاولة لدرء الاتهامات بتسيّس القضاء أو استخدامه في تصفية الحسابات المحلية. هذا التصريح مهم، لأنه يُظهر وعياً بخطورة الانقسام الداخلي في المدينة، وحرصاً على عدم الانزلاق نحو صراع مفتوح بين مكونات كركوك.
ولكن، إذا كان هذا الحدث قد مر بسرعة، فإن آثاره النفسية والسياسية ستظل حاضرة لفترة طويلة. فهناك شارع عربي يشعر بأنه مُستهدف، وقيادات تحاول التموقع من جديد، وكتل سياسية تستعد للانتخابات المقبلة وقد باتت تمتلك مادة جديدة للحشد والتعبئة.
يبقى السؤال الأهم: كيف ستكون المرحلة المقبلة في مدينة كركوك؟
فهي ليست مجرد مدينة عراقية عادية، وهي بحاجة إلى خطاب سياسي عابر للانتماءات القومية والطائفية، يقوم على الشراكة الحقيقية، والعدالة المتوازنة، والمصالحة الواقعية، بعيداً عن منطق الغلبة أو التهميش.
في النهاية، كركوك بحاجة إلى عقلاء أكثر من حاجتها إلى أبطال، وإلى مؤسسات قوية أكثر من حاجتها إلى رموز فردية… فهل يتعلم الجميع من درس راكان الجبوري؟