احمد صلاح – كربلاء
في صباح قاتم من أيام عام 1991، يستعيد نورس عدنان، أحد أبناء قضاء طويريج، ذكرياته عن ذلك اليوم الذي لم تشرق فيه الشمس على مدينته كما ينبغي، اليوم الذي لم يذق فيه طعم النوم ولا الراحة، والذي طبع حياته بطابع الحرب والخوف.
“إنه صباح أسود”، هكذا بدأ نورس حديثه، واصفًا الهجوم الذي تعرضت له مدينته على يد الجيش العراقي في أحداث الانتفاضة الشعبية ضد النظام البائد الذي كان يقوده المقبور صدام حسين.
والدته، تلك المرأة التي كانت تنتظر الصباح بفارغ الصبر، تعرف أن اليوم لن يكون يومًا عاديًا، كان الخوف يتسلل إلى قلبها كما يتسلل النور إلى الغرف المظلمة، لكنها لم تظهره، بل استعدت لمواجهة مصير مجهول.
يقول نورس: “لم ننم طوال الليل، أمي كانت تنتظر الصباح لتحمل أخي على كتفها، وتمسك بيدي، وتنطلق إلى المجهول”.
في تلك اللحظات، لم يكن هناك سوى خيار واحد أمام العائلة وهو الهروب.
كانت طويريج، المدينة الهادئة، قد أصبحت محاصرة، وتعرضت لهجوم عنيف من الجيش.
يتذكر نورس صوت الطائرات التي كانت تحوم فوق رؤوسهم، والمدفعية التي كانت تدك الأرض من حولهم. وسط هذا الضجيج، لم يكن هناك شيء واضح سوى خوف والدته الذي يراه في عينيها.
“كنت أنظر إلى أمي، والخوف يجدح في عينيها”، يقول نورس بأسى، كانت تشعر بالعجز، فلا تعرف إلى أين تتجه، وما الذي ينتظرنا.
ساعات طويلة من الركض في العراء، لا ملاذ ولا مكان يختبئون فيه، كانت المدينة تنهار من حولهم، والطرق المؤدية إلى الهروب تبدو مغلقة.
لم يكن لديهم دليل سوى بعض الثوار الذين صادفوهم في الطريق، “التقينا بعض الثوار في الطريق، الذين وجهونا لطريق زراعي آخر”، يضيف نورس، كان هؤلاء الثوار جزءًا من الانتفاضة الشعبية التي اندلعت ضد نظام صدام حسين في ذلك الوقت، وكانوا يحاولون مساعدة المدنيين على الهروب من دائرة الموت.
بالرغم من الصدمة والخوف اللذين كانا يحيطان بالعائلة من كل جانب، لم يكن نورس قادرًا على التفكير إلا في المصير الذي ينتظرهم.
“منذ ذلك اليوم، وللآن، تتراقص في عيني حالة كبار السن، الأطفال، النساء، وذوي الإعاقة”، يقول نورس وهو يستعيد تلك المشاهد التي لن تفارقه أبدًا.
هذه الفئات الهشة التي غالبًا ما يتم تجاهلها في أوقات الحروب، هي التي تدفع الثمن الأكبر، في خضم فوضى الهروب والنزوح، يصبح المصير أكثر قسوة لمن هم أقل قدرة على الدفاع عن أنفسهم أو التأقلم مع الظروف القاسية.
يحكي نورس عن الألم والمعاناة اللذين عاشهما الشعب العراقي خلال الانتفاضة الشعبية عام 1991، عندما واجهوا حملة قمع شرسة من قبل النظام، بعد أن اجتاحت الانتفاضة مدنًا مثل كربلاء وبابل، حوصر قضاء طويريج وتعرض لهجوم مدمر، يتذكر نورس تفاصيل الدمار الذي حلّ بمدينته، وكيف أن الحرب لم تترك بيتًا أو شخصًا إلا وتركته محطماً بطريقة أو بأخرى، يقول نورس: “لقد أبيدت كربلاء وبابل، وبعدهما حوصرت طويريج وهوجمت صباحًا”.
لم يكن نورس كبيرًا في ذلك الوقت، لكنه كان شاهدًا على واقع يفوق عمره بكثير.
“كبرت وبدأت أشيب، وللآن أعرف طعم الحرب ومعاناة الإنسان والحيوان والنبات فيها”، يقول نورس وهو يعبر عن الألم العميق الذي خلفته الحرب في نفسه، ويضيف: “فضلاً عن الحجر والشيء”.
حتى الجمادات، كما يقول، لم تسلم من قسوة الحروب، يشعر نورس أن الحروب تدمر كل شيء في طريقها، الإنسان والطبيعة وكل ما ينبض بالحياة.
رغم كل هذا الدمار، كانت والدته رمزًا للصمود، حملت أخاه الصغير على كتفها وأمسكت بيد نورس بقوة، كأنها بذلك تحاول حمايتهما من العالم القاسي الذي أصبح فجأةً مليئًا بالمخاطر.
“أوصلتنا أمي إلى بر الأمان ذلك اليوم، عند منازل أعمامي في الحلة”، يقول نورس ممتنًا للقدرة التي كانت تمتلكها والدته في لحظات الخوف والرعب، ولكن على الرغم من أنهم نجوا جسديًا في ذلك اليوم، فإن نورس يؤكد أن السلام الحقيقي لا يزال بعيدًا، “لكننا لم نصل للآن لميناء السلام”، يعبر نورس عن حالة مستمرة من القلق والشعور بأن الحرب لم تتركهم حتى بعد انتهاء المعارك.
الحروب كما يقول نورس، ليست فقط معارك عسكرية، بل هي معارك نفسية وإنسانية تستمر حتى بعد انتهاء القتال. “الكل يفرح للحرب، ولكنهم لن يحزنوا إلا عندما يصابون بالهروب”، يقول نورس موضحًا كيف أن الصراع يؤثر على الجميع، ولكن الأثر الأكبر يظهر عندما يجبر الناس على ترك بيوتهم وحياتهم بحثًا عن الأمان.
منذ تلك اللحظة، ونورس يعيش مع ذكريات ذلك الصباح الأسود، ويراقب الحروب والنزاعات التي لا تزال تدور في أنحاء العالم، ويرى في كل مشهد مشاعر الخوف والمعاناة التي عاشها يومًا، يرى الأطفال الذين يفقدون طفولتهم، والنساء اللواتي يتحملن أعباءً تفوق قدرتهن، وكبار السن الذين يُتركون في مهب الريح.
يختتم نورس حديثه بالدعاء: “اللهم احمي بلدنا من دعاة القتال والأزمات”. هذا الدعاء ليس مجرد كلمات، بل هو نداء نابع من القلب، من إنسان عاش الحرب والهروب بكل تفاصيله، ويرى الآن ضرورة حماية الأجيال القادمة من المعاناة التي عاشها هو وأسرته.
تعكس شهادة نورس عدنان تجربة إنسانية عميقة عن الألم والفقدان، ولكنها في الوقت ذاته شهادة على الصمود والبقاء، ففي الحروب، كما يقول نورس، يتغنى الأقوياء بالانتصارات، ولكنهم لا يرون المعاناة التي تقع على كاهل الفئات الأضعف.
تمثل قصة نورس واحدة من آلاف القصص التي شهدها العراق خلال الانتفاضة الشعبية في 1991، عندما خرج الشعب مطالبًا بالحرية والعدالة، لكنه واجه ردًا عنيفًا من النظام، هذه القصص ليست مجرد سرد لتاريخ مضى، بل هي تذكير دائم بالأثر الإنساني العميق للحروب والصراعات.
على الرغم من مرور سنوات عديدة على تلك الأحداث، فإن الجراح لا تزال مفتوحة، ويشعر نورس بأن الحرب لم تنتهِ بعد، وأن السلام الحقيقي لم يتحقق، هذا الشعور باللااستقرار والقلق هو جزء من إرث الحرب، الذي يستمر في التسلل إلى الحياة اليومية للناجين.
في النهاية، تُظهر شهادة نورس أن الحروب لا تنتهي بانتهاء القتال، بل تستمر آثارها لعقود، وربما لأجيال، لهذا، يبقى الدعاء الذي يختتم به نورس حديثه، دعاءً لكل إنسان عاش الحرب: “اللهم احمي بلدنا”.